هناك رأيتها.. طفلة صغيرة.. بعزم صادق وارادة صلبة تجاهد لتستقيم معتدلة فوق قدميها الصغيرتين.. تتثنى ركبتاها الضعيفتين فتشد من عودها لابقاءهما فى وضع مستقيم.. يرخى ابيها قبضته على يديها الصغيرتين.. يفلتهما.. تتماسك فى وضعها الجديد.. تركز أنظارها حيث موضع أقدامها.. بداخلها تتشكل أولى خبراتها.. تتفتح مداركها على حس لم تألفه.. تتكثف تفاصيله لتوّطنها على خوض التجربة.. حيث يجب أن تنطلق هناك.. بمفردها..
بعينين صغيرتين خاطفتين ترمق اباها.. تطمئن الى وجوده .. تحسم أمرها ما بين العدول والمواصلة.. تستمد قوتها من الأرض الصلبة تحتها.. تتحسس بقدميها أولى خطواتها على الطريق..
ترفع قدماً صغيرة ثم تضعها.. ترفع الأخرى مثلها.. تتقدم بها خطوة.. خطوتان..على بعد خطوات قليلة تتوقف .. تطمئن الى ما انجزته من مسافة.. تنظر خلفها.. تجبرها ابتسامة والدها الذى انحنى فاتحاً ذراعيه نحوها على الابتسام..
فى زهو انتصارها الأول تتحول الى ضحكة عذبة... تسرع عائدة فى خطوات مرتبكة.. فى حضن أبيها ترتمى
هناك رأيتنى... طفلة تلهو بسنوات عمرها القليلة.. تتأمل رصيداً أخضراً من الخبرات.. على شاطىء البحر تعدو.. بقدمين عابثتين تتنقل ما بين سخونة رماله وبرودة مياهه... خلف ظهرها يتطاير شعرها بلا قيود وأمامها تتناثر الأحلام بلا توقف.. تتأمل شموساً صغيرة تتكسر فوق مياه بعيدة.. تدندن لحناً طفولياً.. ترفع يديها نحو السماء.. تدور حول نفسها بخطوات متقطعة.. تغمض عيناها.. يتراءى لخيالها صوراً لأشخاص تعرفهم..
فى الصباح تخونها ذاكرتها .. لم تدرك من بين أهدابها الناعسة سوى أيد حانية تحملها لتضعها فى فراشها
هناك رأيتنى ورأيتها.. طفلة صغيرة ناعمة.. أحملها بين ذراعىّ .. أتأمل وجهاً ملائكياً وملامح رقيقة.. اضمها الى صدرى.. اهمس فى أذنها بأسرار لم يعرفها أحد.. أعترف لها بكل أخطاءى وحماقاتى.. اروى لها مشاهد عمر مضى وأحلام عمر قادم.. أحدثها عن أيام عذبة كانت وأخرى أفضل ستكون..